تسجيل الدخول اطلب عرض تجريبي الآن
AR
اطلب عرضك الخاص الآن
AR

دور الموارد البشرية في بناء بيئة عمل تهتم بالصحة النفسية للموظفين

تؤثر بيئة العمل على الصحة النفسية للموظف بصورة مباشرة إذ تُسهم الضغوط اليومية والممارسات التنظيمية غير العادلة وضعف الدعم الإداري في خلق مناخ مهني غير صحي، لذلك يعد فهم العلاقة بين الصحة النفسية وسياق العمل ضرورة إستراتيجية لأي منشأة تطمح إلى تعزيز الأداء وتقليل نسب الغياب والإرهاق، ويمثل هذا المقال مدخلاً عملياً لتحليل المفهوم العام للصحة النفسية في بيئة العمل واستعراض أهم المؤثرات والمخاطر والمشكلات المرتبطة بها مع تسليط الضوء على الدور المحوري لإدارة الموارد البشرية في الوقاية والمعالجة وتعزيز المناخ النفسي الداعم داخل المنشآت.

نتناول في السطور التالية:

تعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بصورة عامة على أنها «حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة وتحقيق إمكاناته والتعلّم والعمل بصورة جيدة والمساهمة في مجتمعه المحلي، وهي جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه اللذين يدعمان قدراتنا الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وإقامة العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه، والصحة النفسية هي حق أساسي من حقوق الإنسان، وهي حاسمة الأهمية للتنمية الشخصية والمجتمعية والاجتماعية الاقتصادية».

ومن التعريف السابق ننطلق للبحث في مفهوم الصحة النفسية في بيئة العمل ودراسة أهمية تعزيزها والأساليب التي يمكن لإدارة الموارد البشرية اتباعها لخلق بيئة عمل مهتمة بالصحة النفسية.

ما هو مفهوم الصحة النفسية في بيئة العمل؟

يمكن أن نعرف الصحة النفسية في بيئة العمل بأنها حالة متكاملة من الرفاهية العاطفية والنفسية والاجتماعية التي تمكّن الموظف من أداء مهامه بكفاءة والتفاعل الإيجابي مع زملائه والتعامل بمرونة مع ضغوط العمل. ولا تقتصر الصحة النفسية في بيئة العمل على غياب الاضطرابات النفسية بل تشمل الشعور بالرضا الوظيفي والثقة والانتماء والقدرة على النمو والتطور داخل المنشأة.

وتتأثر الصحة النفسية بعوامل متعددة منها بيئة العمل المادية والتنظيمية والدعم من الزملاء والإدارة وتوازن الحياة المهنية والشخصية، ويُعد تعزيزها مسؤولية مشتركة بين المنشأة والموظفين لما لها من دور حاسم في رفع الإنتاجية وتقليل الغياب وتحسين الولاء، كما تُعد إستراتيجية ضرورية لتحقيق الاستدامة المؤسسية وتعزيز جودة الحياة المهنية.

علاقة العمل والصحة النفسية

إذا أردنا أن نتناول مفهوم الصحة النفسية من منظور أكثر واقعية وشمولاً، فإن الصحة النفسية هي نتاج تفاعل مستمر بين أربعة أبعاد أساسية تشكّل رفاهية الإنسان بصورة عامة، وهي الصحة العاطفية والبدنية والمالية والاجتماعية، وتتعلق الصحة العاطفية بكيفية إدراكنا لمشاعرنا والتعبير عنها، أما الصحة البدنية فهي مرتبطة بالعادات اليومية مثل النوم والنشاط البدني والتغذية، من ناحية أخرى تؤثر الصحة المالية على الاستقرار النفسي لأن الضغوط المالية تُعد من أبرز مصادر القلق المزمن، وأخيراً فإن الصحة الاجتماعية تنعكس في جودة العلاقات التي نُقيمها والتي تشكّل شبكة دعم أساسية لمواجهة التحديات.

وبناءً على هذا الفهم، فإن العمل اللائق يعزز الصحة النفسية من خلال توفير مصدر للرزق وتعزيز الثقة بالنفس وتوفير شعور بالهدف والإنجاز، بالإضافة إلى فرص للتواصل الاجتماعي والاندماج المجتمعي، كما يمكن أن يسهم في تعافي الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية من خلال تحسين تفاعلهم الاجتماعي وزيادة ثقتهم بأنفسهم.

إذاً فالعمل اللائق مفيد للصحة النفسية لأنه يوفر بيئة داعمة ومستقرة تعزز الرفاهية العامة للأفراد، وبالتالي فإن بيئة العمل يمكن أن تكون مصدراً للدعم النفسي أو سبباً للتوتر والضغوط النفسية اعتماداً على ظروفها وممارساتها.

وتفيد منظمة الصحة العالمية في تقرير لها أن أكثر من نصف البالغين في العالم لديهم وظائف ويقضون معظم ساعاتهم في مكان العمل، ما يعني أن الحالة النفسية المرتبطة بالعمل ستكون لها عواقب عالية على الإنتاجية والتغيب ولها تأثير كبير على نجاح الشركات والمنشآت، وتشير المنظمة في ذات التقرير إلى أن 15% من البالغين في سن العمل يعانون من اضطراب نفسي، وأنه يتم خسارة اثنا عشر مليار يوم عمل سنوياً بسبب الاكتئاب والقلق وحدهما وهما يكلفان الاقتصاد العالمي تريليون دولار أمريكي سنوياً.

لذا فإن بيئات العمل التي تتسم بالتمييز وعدم المساواة وأعباء العمل المفرطة وضعف المشاركة في اتخاذ القرارات وانعدام الأمان الوظيفي تُشكّل خطراً على الصحة النفسية للعاملين وتؤدي إلى ضعف جودة الحياة الوظيفية، كما أن عدم وجود دعم كافٍ من الزملاء أو المشرفين والتعرض للعنف أو التنمر يمكن أن يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والقلق والاكتئاب بين الموظفين.​

ويوصي التقرير السابق بأن لكل شخص الحق في العمل، ولكل عامل الحق في بيئة عمل آمنة وصحية، وقد يكون العمل عاملاً وقائياً للصحة النفسية، ولكنه قد يُسهم أيضاً في تدهورها، ولا بدّ من بذل جهود كبيرة لحماية وتعزيز الصحة النفسية في العمل والوقاية من تدهور الصحة النفسية المرتبطة بالعمل ودعم الأشخاص الذين يعانون من حالات نفسية ليتمكنوا من المشاركة الكاملة والمنصفة في وظائهم. 

أهمية تعزيز الصحة النفسية في العمل

لم يعد تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل خياراً إضافياً بل ضرورة إستراتيجية لضمان استدامة الأداء الفردي والجماعي وتحقيق أهداف المنشآت، فالموظف الذي يحظى بدعم نفسي يكون أكثر قدرة على التكيف واتخاذ القرارات وتحمل الضغوط والمشاركة بفاعلية في تحقيق نتائج العمل، وهذا ما تؤكده تقارير عالمية متعددة تربط مباشرة بين الصحة النفسية وكفاءة الأداء الوظيفي واستقرار بيئة العمل على المستويين البشري والمالي، وتبرز أهمية تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل في النقاط التالية:

رفع الكفاءة وزيادة الإنتاجية

يساهم التركيز على الصحة النفسية في تحفيز الموظفين وزيادة تركيزهم ومرونتهم الذهنية وقدرتهم على الإنجاز، ما يؤدي إلى رفع جودة العمل وانخفاض معدلات الخطأ، فالموظفون الذين يشعرون بالارتياح النفسي يكونون أكثر انخراطاً وحماساً ما ينعكس على روح الفريق والتعاون الداخلي، كما أن الصحة النفسية الإيجابية تحفز الابتكار وتدعم قدرة الموظفين على تقديم حلول إبداعية لمشكلات عملهم.

تقليل معدلات الغياب وتحسين الاستقرار الوظيفي

يؤدي تجاهل الصحة النفسية إلى أمراض جسدية مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم واضطرابات النوم ومشكلات القلب وهو ما يزيد من أيام الغياب المرضي ويخفض معدل الحضور الفعال، بينما تعزز بيئة العمل الداعمة صحة الموظف الجسدية والعقلية ما يقلل من التكاليف المرتبطة بالتغيب ويحسن فرص الترقي والاستقرار الوظيفي ويقلل من معدلات الاستقالة والاحتراق الوظيفي.

خفض التكاليف وتحقيق عائد استثماري مباشر

تعد برامج دعم الصحة النفسية وسيلة فعالة لتقليل النفقات التشغيلية على المدى الطويل، فالموظف غير المنتج أو المتغيب جزئياً بسبب الضغوط النفسية يكلف الشركة خسائر غير مباشرة عبر ضعف الأداء وزيادة الحوادث وضعف التخطيط، كما أن خفض معدلات دوران الموظفين يوفر تكاليف التوظيف والتدريب ويساعد في الحفاظ على الكفاءات داخل المنشأة.

تحسين سمعة المؤسسة وتعزيز الجاذبية الوظيفية

تعكس سياسات الصحة النفسية صورة المنشأة الإيجابية أمام المرشحين وسوق العمل إذ تصبح بيئة العمل الآمنة والداعمة ميزة تنافسية لجذب واستبقاء أفضل الكفاءات، فالشركات التي تعطي الأولوية للرفاه النفسي تبني ثقافة قائمة على الاحترام والتعاطف وتزيد من ولاء الموظفين ورضاهم ما يؤثر مباشرة على سمعة المنشأة بوصفها وجهة عمل متميزة.

مواجهة التحديات المعاصرة وتقليل تأثير التوتر

تضاعف الضغط النفسي في بيئة العمل خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد الأزمات الأخيرة مثل أزمة كوفيد وارتفاع معدلات التضخم، ما أبرز أهمية السياسات النفسية الوقائية في التعامل مع التوتر والقلق والاكتئاب والتخفيف من العوامل الخطرة مثل العزلة وفقدان الحافز وسوء العلاقات بين الزملاء.

تعزيز بيئة العمل الإنسانية والمستدامة

يبني الاهتمام بالصحة النفسية علاقات عمل صحية قائمة على الثقة ويشجع الموظفين على طلب الدعم دون خوف من الوصمة، كما يخلق بيئة يشعر فيها الجميع بالأمان والتقدير ما يعزز روح الفريق ويزيد من دافعية الجميع نحو تحقيق أهداف العمل دون أن تكون على حساب التوازن الشخصي والنفسي.

أهم المشكلات النفسية التي يواجهها الموظف بسبب العمل

تؤثر بيئة العمل تأثيراً مباشراً على الصحة النفسية إذ يقضي الموظف معظم يومه داخل المنشأة ويخضع يومياً لتفاعلات بشرية وضغوط مهنية ومطالب تنظيمية تتطلب مستوى عالياً من التركيز والتحمل والمرونة، ومع تكرار التعرض لهذه العوامل دون وجود دعم نفسي وتنظيمي كافٍ تبدأ آثار نفسية ضارة بالظهور وتؤثر على جودة حياة الموظف وعلى إنتاجيته في آن واحد، ومن أهم هذه المشكلات:

الاكتئاب المهني

ينتج الاكتئاب في بيئة العمل عن غياب التقدير وتكرار التهميش وافتقار العدالة التنظيمية، كما يؤدي التعامل مع مديرين متسلطين أو زملاء غير داعمين إلى شعور الموظف بالإحباط والعزلة، فيظهر الاكتئاب من خلال انسحاب الموظف من التفاعل مع فريقه وتراجع إنتاجيته وتشتته الذهني وضعف ثقته بنفسه.

ويترافق مع أعراض مثل الحزن الدائم وفقدان الشغف وصعوبة التركيز والتعب المستمر واضطرابات النوم، كما يفقد الموظف المصاب بالاكتئاب القدرة على اتخاذ القرارات أو التفاعل مع ضغوط العمل ويبدأ في الانعزال والتأجيل والمماطلة ما يضعف أداءه بصورة متسارعة.

القلق الوظيفي

ينشأ القلق بسبب ضغط العمل المتكرر أو تكدس المهام أو ضعف سيطرة الموظف على وقت إنجاز أعماله، وتظهر اضطرابات القلق من خلال شعور دائم بالخطر أو التوتر وصعوبة النوم والتعب المزمن واضطرابات في الهضم والتنفس، وتتفاقم حدة القلق عندما يواجه الموظف إدارة تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في عمله ما يعزز الإحساس بفقدان السيطرة ويؤدي إلى ضعف القدرات الذهنية ويزداد معدل الغياب عن العمل واضطراب العلاقات الوظيفية، وغالباً ما يتداخل القلق مع الاكتئاب ما يجعل آثاره مضاعفة على الصحة النفسية والوظيفية للعامل.

الاحتراق الوظيفي

يحدث الاحتراق الوظيفي عندما تستمر الضغوط النفسية لفترات طويلة دون تدخل أو دعم ويشعر الموظف أنه غير قادر على مجاراة متطلبات العمل، وتتعدد أسبابه من غياب التوازن بين الحياة الشخصية والعملية إلى ضعف وضوح الأدوار الوظيفية وعدم وجود دعم اجتماعي داخل المنشأة.

كما يتفاقم الاحتراق في بيئات العمل التي تفتقر للعدالة أو التي تسودها الفوضى أو التكرار أو الرقابة المفرطة، وتشمل أعراضه الإرهاق المزمن وفقدان الدافع والأرق والتوتر المستمر والانعزال والحزن والغضب دون مبرر، ويؤدي الاحتراق في مراحله المتقدمة إلى إدمان المسكنات أو الكحول أو تعرض الموظف لمشكلات صحية مثل أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم.

البارانويا والشك بالآخرين

ينشأ اضطراب البارانويا في بيئات العمل التي تتسم بالتنافس الشديد وغياب الشفافية إذ يبدأ الموظف بتفسير سلوك الزملاء بطريقة عدائية فيتخيل المؤامرات ويشك بالنوايا ويعاني من الشعور بالمراقبة، ويرتبط هذا الاضطراب بانعدام الثقة ويؤثر في قدرة الموظف على التعاون والعمل الجماعي فيرفض النصائح ويعزل نفسه ويبالغ في تحليل المواقف اليومية ما يجعله عرضة لمزيد من القلق والتوتر.

ويؤدي استمرار هذا النمط من التفكير إلى تشويه العلاقات الوظيفية ويحد من فرص التقدم المهني، كما قد يسبب أعراضاً جسدية مثل الصداع واضطرابات النوم وفقدان التركيز، وتسهم الإدارة السيئة والأساليب الرقابية القمعية في تعميق هذا الاضطراب إذ تعزز الخوف والتوجس بدلاً من بناء بيئة قائمة على الثقة والانفتاح.

مشكلات احترام الذات

يتأثر احترام الذات عند الموظف بعدم الاعتراف بجهوده وقلة التقدير الوظيفي وضعف العلاقات الإنسانية داخل المنشأة، فيفقد الموظف احترامه لذاته عندما يشعر بالإهمال أو التهميش أو التحقير المتكرر، وتؤدي سياسات التقييم غير العادلة أو النقد الهدام إلى بناء صورة ذاتية سلبية تولد القلق الاجتماعي وتزيد من الإحباط وتعيق القدرة على تحمل المسؤولية أو المبادرة.

وتشير الدراسات إلى أن انخفاض احترام الذات يرتبط بالاكتئاب والانسحاب الاجتماعي والاضطرابات المرتبطة بالصورة الذاتية وقد يتطور إلى نوبات قلق دائم أو تفكير سلبي مزمن، خاصة عند الموظف الذي يتعرض للمقارنة الدائمة أو الذي يعمل في بيئة تشجع الفردية المفرطة من دون دعم نفسي أو توجيه مهني.

فقدان الشغف والدوافع

يعاني الموظف من فقدان الشغف عندما تتراكم المهام الروتينية من دون تحديات جديدة أو مسارات تطوير مهني فيتراجع حماسه تدريجياً ويشعر بأن العمل فقد معناه، ويرتبط هذا النوع من الاضطراب بالإرهاق المهني أو الاحتراق الوظيفي وينعكس في مظاهر متعددة مثل انخفاض الإنتاجية وكثرة التغيب وسرعة التهيج والشعور باللامبالاة وتراجع الأداء الذهني، كما يفقد الموظف دافعيته حين يشعر أن مجهوده لا يؤدي إلى نتائج ملموسة أو عندما تغيب القيادة الملهمة فيعجز عن ربط مهامه اليومية برؤية أكبر أو هدف أسمى.

كيفية تقييم مخاطر الصـحة النفسية فـي بيئة العمل

يعد تقييم مخاطر الصحة النفسية في بيئة العمل ضرورياً للوقاية من التدهور النفسي وحماية استدامة الأداء، إذ يسهم في رصد العوامل الضاغطة التي قد تتحول إلى اضطرابات تؤثر سلباً على رفاهية الموظفين ومردودهم المهني، ويمثل هذا التقييم خطوة تنظيمية واعية تسهم في تحسين بيئة العمل عبر دمج أدوات علمية وتقنيات تحليل متقدمة تؤدي إلى استباق الأزمات النفسية وبناء بيئة داعمة للصحة النفسية، من الطرق التي يمكنك استخدامها:

تحليل بيئة العمل التنظيمية

ابدأ بتقييم الهياكل الإدارية والسياسات الداخلية ونمط القيادة إذ تشكل هذه العناصر السياق الأساسي الذي تنعكس فيه الضغوط النفسية، ويشمل التحليل مراجعة نظم توزيع المهام وعدالة المكافآت ووضوح الأدوار وطبيعة العلاقات بين الزملاء وفعالية التواصل الداخلي، فكل انحراف في هذه العوامل قد يؤدي إلى زيادة التوتر أو الإحباط أو الشعور بالإقصاء الوظيفي.

رصد المؤشرات النفسية والسلوكية

اعتمد على مؤشرات غير مباشرة مثل تراجع الإنتاجية وارتفاع معدل الغياب وزيادة الحوادث والأخطاء المتكررة وكثرة الشكاوى، وراقب التغيرات الفردية في السلوك مثل الانسحاب الاجتماعي وتقلبات المزاج والتوتر المستمر والانفعال المفرط أو الانطواء المفاجئ، إذ تعكس هذه العلامات وجود ضغوط متراكمة قد تتطلب تدخلاً فورياً.

استخدام أدوات التقييم الذاتي

وزع استبيانات معتمدة مثل نموذج مؤسسة سانت جون في إنجلترا والمترجم والمعتمد من الإدارة التنفيذية للصحة والسلامة المهنية في هيئة الصحة العامة بالمملكة العربية السعودية، ومقياس ماسلاش للاحتراق الوظيفي ومقاييس رضا الموظفين والإنهاك العاطفي لقياس مستويات التوتر والرضا والاستقرار ومعايير إدارة الصحة والسلامة في المملكة المتحدة (HSE)، وشجع المشاركة الطوعية عبر التأكيد على أن الغرض وقائي وليس رقابي مع ضمان سرية الإجابات، ما يعزز صدق النتائج ويمكّن من بناء قاعدة بيانات نفسية موثوقة.

إجراء مقابلات فردية ومجموعات تركيز

نفذ جلسات استماع مباشرة مع الموظفين على مستوى فردي أو جماعي لاستكشاف طبيعة التحديات النفسية التي تواجههم واقتراحاتهم لتحسين بيئة العمل، اعتمد تقنيات الاستماع النشط وسجل الملاحظات المتكررة مع تحليل أنماط الشعور والاحتياجات العاطفية وتكرار الشكاوى، فهذه الجلسات تكشف أبعاداً لا تظهر في الاستبيانات.

تحليل البيانات وتحديد أولويات التدخل

اجمع البيانات الكمية من أدوات القياس مع البيانات النوعية من المقابلات وحدد المناطق الحرجة التي تمثل أكبر خطر على الصحة النفسية، ثم صنف المخاطر وفق شدتها واحتمال تكرارها وتأثيرها في الأداء العام، وصغ الأولويات التدخلية بناءً على مزيج من التحليل الإحصائي والرؤية الإنسانية الشاملة.

دور إدارة الموارد البشرية في تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل

تلعب إدارة الموارد البشرية دورًا محوريًا في بناء بيئة عمل تدعم الصحة النفسية للموظفين، ما يعزز الإنتاجية ويحد من معدلات الغياب والاحتراق الوظيفي، ويأتي هذا الدور عبر سلسلة من السياسات والممارسات المدروسة التي تُسهم في الوقاية والتدخل والدعم المستمر للرفاه النفسي في بيئة العمل، ومن أبرز هذه الخطوات:

1. تطوير السياسات الداعمة للصحة النفسية

تبدأ إدارة الموارد البشرية دورها في تعزيز الصحة النفسية من خلال تطوير سياسات واضحة وشاملة تضمن دمج مبادئ الصحة النفسية ضمن الإطار التنظيمي للمنشأة، وتشمل مكافحة كافة أشكال التنمر والتحرش والتمييز، وتوفير إجازات خاصة بالصحة النفسية، كما تشمل ضمان التوازن بين الحياة المهنية والشخصية من خلال ترتيبات مرنة لتقليل الضغط النفسي مثل العمل المرن أو العمل عن بعد عند الحاجة.

كما تحرص الإدارة على ضمان العدالة والإنصاف في الفرص والمعاملة دون تمييز، ما يخلق بيئة تحترم الفرد وتدعم استقراره النفسي، وتقوم بمراجعة هذه السياسات دورياً لضمان فعاليتها ومواكبتها للمتغيرات الداخلية والخارجية، كما تضمن الامتثال للمعايير المحلية والدولية المرتبطة بالسلامة النفسية، وهو ما يمنح الموظف شعوراً بالأمان المؤسسي ويدعم ثقته في المنشأة بوصفها جهة حريصة على رفاهيته الشاملة.

2. مراقبة مستمرة وتقييم دوري للجهود

تُحول إدارة الموارد البشرية عملية التقييم إلى ممارسة مؤسسية دورية تُنفذ باستمرار باستخدام أدوات قياس مرنة بهدف كشف العوامل المؤثرة سلباً على الصحة النفسية، وتُدمج هذه التقييمات ضمن نظام الجودة والسلامة المهنية لتصبح جزءاً من آليات الرقابة الشاملة، ما يضمن الكشف المبكر عن المخاطر النفسية ويُساهم في تقليل احتمالية تراكم الأزمات الصامتة ويُوفر أرضية للتحسين المستمر والمراجعة الفاعلة للسياسات.

3. الفهم العميق لأسباب المشكلات النفسية

تحليل المشكلات النفسية في بيئة العمل وربطها بالعوامل الحقيقية التي تؤثر على الموظفين، ويعتمد هذا الفهم على رصد المؤشرات النفسية والسلوكية المرتبطة بالإجهاد والتوتر، مثل التغيرات المفاجئة في السلوك أو انخفاض الإنتاجية أو الانسحاب الاجتماعي داخل مكان العمل. وغالباً ما تكون هذه المؤشرات نتيجة لعوامل تنظيمية واضحة مثل عبء العمل الزائد أو ضعف الإشراف الإداري أو غياب التوجيه الواضح وعدم تقديم التدريب الكافي للموظفين.

لكن الفهم العميق لا يتوقف عند مجرد تحديد هذه العوامل، بل يتطلب أيضاً تحليلاً دقيقاً لكيفية تفاعل الموظفين مع الضغوط الخارجية التي قد تؤثر على أدائهم النفسي والمهني، ويمكن أن تشمل هذه الضغوط الظروف الشخصية أو الاجتماعية التي تتجاوز نطاق العمل لكنها تأثيراتها السلبية تظهر داخله، ويساعد هذا الفهم على وضع خطط واضحة لإدارة الأزمات النفسية سواء كانت ناشئة عن ضغوط داخلية مرتبطة بالعمل أو متأثرة بظروف خارجية.

4. تحسين بيئة العمل المادية

تركز إدارة الموارد البشرية على تحسين بيئة العمل المادية بعد تحديد العوامل التي تؤثر سلباً على الصحة النفسية مثل الضوضاء وضعف الإضاءة وسوء التهوية ورداءة البنية التحتية، إذ تُعد هذه العناصر من أبرز مسببات التوتر والإرهاق المزمن في أماكن العمل وتؤدي إلى انخفاض التركيز وارتفاع مستويات القلق، فتعمل الإدارة على إعادة تصميم المساحات المكتبية لتكون أكثر هدوءاً وراحة عبر عزل الضجيج وتعديل الإضاءة وتوفير التهوية الملائمة.

كما تسعى لتجديد الأثاث وتجهيز المكاتب بأدوات عملية تسهّل الأداء وتقلل من الإجهاد البدني، وتُراعي الإدارة احتياجات الموظفين من خلال توفير غرف مخصصة للاستراحة أو التأمل للمساعدة على استعادة التوازن الذهني، وتساعد هذه المبادرات على تقليل مصادر الضغط مثل أعباء العمل المتراكمة أو ساعات العمل المفرطة بما يحقق بيئة تنظيمية صحية وداعمة.

5. بناء ثقافة تنظيمية شاملة وآمنة

بناء ثقافة تنظيمية تدعم الصحة النفسية في بيئة العمل عبر تشجيع التنوع ودعم التعبير الآمن عن المشاعر والمشكلات النفسية دون خوف من التمييز أو التهميش، كما تُوفر إدارة الموارد البشرية منصات للمشاركة والاستماع مثل مجموعات النقاش أو جلسات التغذية الراجعة ما يُعزز الشعور بالانتماء ويُقلل من مشاعر العزلة، إضافة إلى ذلك على إدارة الموارد البشرية دمج مفاهيم الصحة النفسية في الرسائل الإدارية والسياسات العامة لتُصبح جزءاً من الهوية المؤسسية وليس مبادرات طارئة أو فردية.

6. دعم ثقافة التبليغ وتسهيل الوصول للمساعدة

تُشجع إدارة الموارد البشرية الموظفين على التبليغ عن المشكلات النفسية دون خوف من التبعات من خلال حملات توعية وإجراءات لحماية خصوصيتهم، وتُدرج قنوات التبليغ بصورة دائمة ضمن آليات العمل وثقافته وسياسته وليس بصورة استثناء مؤقت، كما تُهيئ قادة الفرق للتعامل مع البلاغات النفسية بمهنية وشفافية وتُوفر خطوطاً مباشرة للدعم وأدلة إجرائية توضح خطوات التدخل، ما يُؤكد جدية المنشأة في الاستجابة ويُعزز شعور الموظف بأن الصحة النفسية في العمل أولوية لا يمكن تجاهلها.

7. توفير خدمات دعم نفسي متكاملة

تشرف إدارة الموارد البشرية على تنفيذ برامج مساعدة الموظفين التي توفر استشارات نفسية سرية وخدمات دعم متخصص للموظفين الذين يواجهون ضغوطاً نفسية أو مشكلات حياتية، وتُسهّل الوصول إلى العلاج من خلال شراكات مع شركات تأمين ومنصات رقمية أو أخصائيين نفسيين يعملون داخل المنشأة، كما تُنظم جلسات وورش عمل لتعليم مهارات التعامل مع التوتر والقلق والإرهاق لضمان قدرة الموظفين على التكيف دون عوائق ثقافية أو مالية. 

وتُعد هذه البرامج جزءاً من منظومة شاملة تهدف إلى جعل الرعاية النفسية أولوية مؤسسية لا ترفاً، كما تُصمم آليات تضمن الخصوصية وتُعزز ثقة الموظفين بالخدمات المقدمة ما يُشجع على استخدامها دون تردد وتُدرج هذه البرامج ضمن إطار إستراتيجي يربط الصحة النفسية بالإنتاجية والاستدامة المهنية.

8. تصميم تدخلات نفسية وقائية

تركز إدارة الموارد البشرية على تنظيم جلسات وقائية منتظمة تهدف إلى بناء المرونة الذهنية لدى الموظفين من خلال التوعية المستمرة بمصادر الضغط وكيفية التعامل معها بطرق صحية وآمنة، وتُعزز هذه الجلسات مفاهيم الوعي الذاتي وتنمية مهارات إدارة التوتر والتفكير الإيجابي والتخطيط السليم للتعامل مع التحديات اليومية، وتحرص الإدارة أيضاً على إشراك الموظفين في تصميم محتوى هذه الجلسات لضمان توافقها مع طبيعة العمل واحتياجات الفرق الفعلية ما يُعزز من شعور الانتماء ويزيد من تقبل البرامج الوقائية. 

وتُسهم هذه المبادرات في ترسيخ ثقافة الوقاية النفسية داخل المنشأة وتقليل فرص ظهور الأزمات مستقبلاً، كما يمكن تضمين سياسات ما يدعم تطبيق نتائج الجلسات الوقائية من خلال مرونة أكبر وتوازن حقيقي بين متطلبات الإنجاز واحتياجات الراحة الذهنية.

9. تعزيز التوعية والتدريب حول الصحة النفسية

تنظم إدارة الموارد البشرية حملات تثقيفية متواصلة تستهدف الموظفين والمديرين على حد سواء لنشر ثقافة الوعي بالصحة النفسية وتقليل الوصمة المرتبطة بها، وتشمل هذه الجهود تدريب القادة على اكتشاف علامات الإنهاك أو الحزن أو القلق وتمكينهم من التعامل معها بأسلوب إنساني وتعاطفي.

كما تُعقد دورات تدريبية لتعزيز مهارات القيادة الداعمة وتزويد الموظفين بوسائل التكيف مثل اليقظة الذهنية وإدارة المشاعر والتواصل الفعّال، وتُخصص بعض المبادرات لتتزامن مع مناسبات عالمية مثل اليوم العالمي للصحة النفسية ما يعزز انخراط الموظفين في الحوارات النفسية داخل العمل ويُرسخ مكانة الصحة النفسية بوصفها جزءاً من المسؤولية التنظيمية وليس مجرد مسألة شخصية.

10. تمكين القيادة من دعم الصحة النفسية

تُركز إدارة الموارد البشرية على تطوير المهارات النفسية القيادية لدى المديرين من خلال تدريبهم على التعاطف والتواصل المرن والتعامل مع المواقف الحساسة داخل الفريق، وتُقدم استشارات مستمرة للقيادات حول كيفية دمج الاعتبارات النفسية في السياسات والقرارات الإستراتيجية.

كما تُساعد الإدارة في بناء ثقافة قيادية تهتم بالجانب الإنساني من العمل وتضع الضغوط النفسية في الحسبان عند تقييم الموظفين أو اتخاذ القرارات التشغيلية، كما تُوجه الإدارة القادة في كيفية التعامل مع الأزمات مثل فقدان زميل أو ظهور أعراض الاحتراق الوظيفي، ما يسهم في تقوية العلاقة بين الموظفين والإدارة ورفع الروح المعنوية وتخفيض القلق المرتبط بالتقييمات ويعزز مناخ الثقة داخل المنشأة ويُحسن الأداء الجماعي.

 

ختاماً يتطلب تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل فهماً عميقاً للعوامل التنظيمية والنفسية التي تؤثر في الموظف وتفاعله مع محيطه، إذ تُمثل الممارسات الإدارية الواعية والتقييمات الوقائية والتدخلات المبنية على المشاركة عناصر حاسمة لبناء بيئة آمنة ومحفزة ومستقرة، وتسهم هذه المنهجية في تحسين جودة الحياة المهنية وتعزيز الالتزام وتقليل التكاليف الناتجة عن ضعف الأداء أو ارتفاع نسب الدوران الوظيفي ما ينعكس إيجاباً على استدامة النمو المؤسسي ورفاه الموظفين.

اقرأ أيضًا على مدونة جسر

الاشتراك-في-نشرة-جسر-HR-البريدية

اطلع على جديد الموارد البشرية والحلول التقنية التي يقدمها نظام جسر بالاشتراك في نشرتنا البريدية